
أفضل الأعمال، وأيسرها، وأخفها على العبد، ذكر الله تعالى، ومع ذلك هو أحب الأعمال إلى الله، وأعظمها أجرا، كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخير لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخير لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟! قالوا: بَلَى، قال: ذِكْرُ اللهِ)[الترمذي].
ومن المعلوم أن للذكر فوائدَ وفضائل كثيرة زادت على المائة، فهو يرضي الرحمن، ويطرد الشيطان، ويزيل الهم والغم، ويجلب الفرح والسرور للقلب، وينوّر الوجه، ويجلب الرزق بإذن الله، كما أن الذكر يحطّ الخطايا، ويُورث المراقبة، ويعين على التوبة، ويدخل صاحبه في باب الإحسان، ومعية الرحمن، وهو نور لصاحبه في قبره ومعاده، ويقي من حسرات يوم القيامة.. إلى آخر ذلك مما ذكره السادة العلماء وأرباب السلوك والفقهاء.
ومن الفوائد المعروفة المشهورة للذكر أنه يشرح الصدر، ويقوي القلب ويطمئنه، {ألا بِذِكرِ اللهِ تَطمَئِنُّ القُلُوبُ}[الرعد:28]..
الذكر وقوة البدن
ومن فوائد الذكر أنه يقوي البدن، ويعطيه قدرة على العمل والإنجاز، ويبارك في وقت الذاكر وعمره، فيعمل في نفس الوقت أعظم مما يعمله من لا يذكر الله أو لا يذكره إلا قليلا.
وقد جاء في سورة هود قول هود عليه السلام لقومه عاد: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ}[هود:52].
روى ابن جرير في تفسيره عن مجاهد قال: "شدة إلى شدتكم"، وقال ابن زيد: "جعل لهم قوة، فلو أنهم أطاعوه زادهم قوة إلى قوتهم". وقال الألوسي: "كانوا من أقوى الناس، فوعدهم أنهم إن آمنوا، زادهم قوة إلى قوتهم".
وأما الأحاديث فأشهر الأدلة على ذلك حديث فاطمة رضي الله عنها، أنها جرّت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكنست البيت حتى أغبرت ثيابها، وعلمت أن النبي صلوات الله عليه قد جاءه سبي فأتت تسأله خادما، فأمرها عليه الصلاة والسلام بأذكار تقولها، هي خير لها من الخادم..
روى البخاري ومسلم عن سيدنا علي رضي الله عنه: "أنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ شَكَتْ ما تَلْقَى مِن أثَرِ الرَّحَا، فأتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَبْيٌ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فأخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بمَجِيءِ فَاطِمَةَ، فَجَاءَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَيْنَا وقدْ أخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ لِأقُومَ، فَقَالَ: علَى مَكَانِكُمَا. فَقَعَدَ بيْنَنَا حتَّى وجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ علَى صَدْرِي، وقَالَ: ألَا أُعَلِّمُكُما خَيْرًا ممَّا سَأَلْتُمَانِي؟ إذَا أخَذْتُما مَضَاجِعَكُما تُكَبِّرَا أرْبَعًا وثَلَاثِينَ، وتُسَبِّحَا ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ، وتَحْمَدَا ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ؛ فَهو خَيْرٌ لَكُما مِن خَادِمٍ).
قال ابن القيم رحمه الله: "وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة وعليا رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضجعيهما ثلاثا وثلاثين، ويحمدا ثلاثا وثلاثين، ويكبرا أربعا وثلاثين، لما سألته الخادم وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك وقال: "إنه خير لكما من خادم" فقيل: إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنية عن خادم". [الوابل الصيب:٧٧].
وقال أيضا: "وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما".
وذلك لأن ابن تيمية كان كثير الذكر لله تعالى، فكان الله يفتح عليه من أبواب القوة شيئا كبيرا، كما ذكر ابن القيم عنه: "وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي"[الداء والدواء].
أقوال السلف
وللسلف في هذا الباب أقوال كثيرة منها:
ما جاء عن ابْنُ عَبّاسٍ أنه قال: "إنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا في القَلْبِ، وضِياءً في الوَجْهِ، وقُوَّةً في البَدَنِ، وزِيادَةً في الرِّزْقِ، ومَحَبَّةً في قُلُوبِ الخَلْقِ، وإنَّ لِلسَّيِّئَةِ سَوادًا في الوَجْهِ، وظُلْمَةً في القَلْبِ ووَهَنًا في البَدَنِ، ونَقْصًا في الرِّزْقِ، وبُغْضَةً في قُلُوبِ الخَلْقِ"، قال ابن القيم: وهَذا يَعْرِفُهُ صاحِبُ البَصِيرَةِ، ويَشْهَدُهُ مِن نَفْسِهِ ومِن غَيْرِهِ.
وسبب هذه القوة: أن "المؤمن قوته من قلبه، وكلما قوي قلبه قوي بدنه، وأما الفاجر فإنه - وإن كان قوي البدن - فهو أضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم"اهـ.
قال عطاء الخراساني: "قيام الليل حياة للبدن، ونور في القلب، وضياء في الوجه، وقوة في البصر والأعضاء كلها، إن الرجل إذا قام بالليل أصبح فرحاً مسروراً، وإذا نام عن حزبه أصبح حزيناً مكسور القلب كأنه فقد شيئاً، وقد فقد أعظم الأمور له نفعاً".
قال ابن كثير رحمه الله: "من اتصف بهذه الصفة - الاستغفار- يسَّر اللهُ عليه رزقَه، وسهَّل عليه أمرَه، وحفظ عليه شأنَه وقوتَه".
وهذا حديث عن النبي صلوات ربي عليه وسلامه، يدل على المعنى المراد، عن أبي هريرة رضي الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ علَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هو نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فأصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وإلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ)[رواه البخاري ومسلم].
وخلاصة القول: أن للذكر والطاعة أثر عظيم على القلب وعلى البدن، فكلما قويت صلة العبد بربه، وكان دائم الطاعة لله، دائم الذكر، هُدِيَ طريقَه، وأُلهم رشدَه، وقويت عزيمتُه، وازداد قوةً إلى قوته، واشتد صلابةً في الدين.