
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك الديان، المتفرد بالحكم والسلطان، كتب على خلقه الفناء، وتفرد وحده بالدوام والبقاء، لا راد لحكمه، ولا مُعقب لقضائه، لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون.. أحمده حمد الشاكرين، وأثني عليه ثناء الذاكرين، {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(الحشر:18).. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها النجاة من النار، والفوز بجنات النعيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
تأملوا رحمكم الله هذا الكون من حولنا، كيف يدور في نظامٍ لا يختل، يتعاقب الليل والنهار في سكونٍ مهيب، ثم ينسحب الظلام ليُولد الفجر من رحم الليل، فتُشرق شمسٌ جديدة، تحمل نورها وتمضي، ثم تميل للغروب، وتُعلن نهاية يومٍ مضى ولن يعود..
وكذلك نحن يا عباد الله..
نُولَد ضعفاء لا نملك لأنفسنا ضرًّا ولا نفعًا، ثم نكبر، وتقوى أبداننا، وتُفتح لنا أبواب الحياة، ثم تشيب الرؤوس، وتضعف الخطوات، ويقترب اللقاء..
مِنَّا مَنْ يدركه الموت طفلًا، ومنا من يدركه شابًّا، ومنا من يدركه شيخًا، وكلّنا سائرون، وكلّنا راحلون إلى يوم عظيم، يوم نحاسَب فيه على الصغير والكبير، فماذا نحن فاعلون؟!!
ماذا أعددنا لذلك اليوم العظيم؟ ماذا أعددنا للقبر وظلمته؟ ماذا أعددنا للميزان ودقته؟ ماذا أعددنا للوقوف بين يدي الملك الجبّار؟
أيامنا تمضي، وأعمارنا تطوى، وأعمالنا تُسجَّل، وصحائفنا تُملأ، ثم تُفتح بين يدي الله، فطوبى لمن راجع وحاسب نفسه وتاب قبل فوات الأوان، فهل من وقفة للمحاسبة؟
أحبتي في الله:
أيها الأحبة: لا بد من وقفةٍ نحاسب فيها أنفسنا، وقفة تأمل في مُضي الأعمار، وتقلّب الأحوال، ودنوّ الآجال..
قيل لنوح عليه الصلاة والسلام، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً: "يا أطول الأنبياء عمراً! كيف رأيتَ هذه الدنيا؟ فقال: رأيتُها كداخلٍ من باب وخارج من آخَر"..
والإنسان يعيش حياته بين مخافتين: أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه؟! وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه؟! فليأخذ العاقل من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ : شَبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ)..
خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: "إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا"..
وقال الفاروق عُمر رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}(الحاقة:18)"..
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
فلنحاسب أنفسنا ولنسألها اليوم: كيف نقضي أوقاتنا وأعمارنا؟ لأننا لا محالة سنقف ونُعْرَض وسنحاسَب غدا أمام الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن أربعٍ عن عُمرِهِ فيما أفناهُ وعن عِلمِهِ ما عملَ بِهِ وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيما أنفقَهُ وعن شبابِهِ فيما أبلاهُ)..
فمَنْ مِنَّا أعدَّ لهذا السؤال جواباً؟!!
عباد الله: الناس صنفان في التعامل مع الأعمار ومحاسبة النفس:
صنف باع عمره للهوى، وجعل أيامه بين لهو وغفلة، أبلى شبابه في الشهوات والحرام، وأشغل عمره في جمع الحطام، من غير تفريق بين الحلال والحرام، ضيع الصلاة وترك فرائض ربه، ونسي أمر آخرته، حتى إذا جاءه الموت، وحسرات الفوت، ندم حين لا ينفعه الندم، وتحسّر على عمرٍ ضاع، ووقتٍ ولى، حتى إذا جاءه نداء الحق قال : {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}(الفجر:26:24)..
والصنف الثاني من الناس: صنف حاسب نفسه، وعرف قيمة عمره، وحقيقة هذه الدنيا، فأحسن استغلاله في طاعة ربه، وتزود منه لآخرته، وحافظ على صلاته التي هي أول ما سيحاسَب عليه، أبلى شبابه في مجاهدة نفسه، فعلم وعمل، وصبر وصابر، واكتسب المال مِنْ حِلِّه وأنفقه في مَحله، حتى إذا حضرته الوفاة، بُشّر بقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}(الفجر:27-30)..
كان سلفنا الصالح مع علو شأنهم ومنزلتهم وكثرة خيراتهم يحاسبون أنفسهم..
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً بستانا فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار: "عمر!! أمير المؤمنين، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك"..
وكتب رضي الله عنه إلى بعض عماله: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغله أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة".
وقال إبراهيم التيمي: "مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي"..
وقال الحسن البصري: "لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكان الحساب مِن هِمّته"..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده..
أيها المسلمون: نحن في رحلة لا عودة فيها إلى الوراء، تمضي بنا الأيام دون استئذان، ويقودنا الزمن نحو لقاء لا مفرّ منه، وكل يومٍ يمرّ علينا، هو صفحة تُطوى من أعمارنا، واقترابٌ من مصيرنا، ونحن بين غفلةٍ وتقصير، وأملٍ لا ندري أيسبقه الأجل أم لا؟!! فلننظر في صحائفنا، ماذا كتبنا فيها؟ وهل نحن مستعدون ليوم تُعرض فيه الأعمال، وتنطق فيه الجوارح شاهدة علينا؟
فلنحاسب أنفسنا قبل أن نقف بين يدي الله، ولنغتنم ما بقي من حياتنا، كم من وجهٍ ضاحكٍ بالأمس، صار اليوم تحت التراب..
فحاسبوا -عباد الله- أنفسكم، واستدركوا ما فاتكم، واعلموا أن الموت ليس هو النهاية، بل هو بداية الحياة الطويلة، هو بداية الحياة التي يقال فيها للناس بعد ذلك: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت، قال صلى الله عليه وسلم: (يُؤْتَى بالمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ، فيُنادِي مُنادٍ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنادِي: يا أهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فيَقولُ: هلْ تَعْرِفُونَ هذا؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، هذا المَوْتُ، وكُلُّهُمْ قدْ رَآهُ، فيُذْبَحُ، ثُمَّ يقولُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}(مريم:39)..
وختاماً أيها الأحبة : محاسبة النفس لا تعني جلدها ولا اليأس من رحمة الله، بل هي طريق الصادقين، وسبيل المفلحين.. ومن رحمة الله بنا أن فتح لنا باب التوبة، ووعدنا بقبولها مهما كان تقصيرنا، وعظُمت ذنوبنا، فالله أرحم بعباده من رحمة الأم بولدها، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزمر:53)..
فلنغتنم ما بقي من أعمارنا، ولنستقبل ما تبقّى من أيامنا بتوبةٍ صادقة، وعملٍ صالح، وقلبٍ مُقبلٍ على الله، ولنحافظ عل فرائض الله، ولنجتنب محارمه .
هذا، وصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم كما أمركم ربكم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(الأحزاب:56)..
اللهم تب علينا توبة نصوحاً، واغفر لنا ذنوبنا، ووفقنا لما تحب وترضى.. اللهم اجعل حياتنا خيرٍا وبركة وفي طاعتك، واجعل خاتمتنا إلى رضاك وجنتك يا أرحم الراحمين..