وأيضا فلو قدر أن القول بالنص هو الحق لم يكن في ذلك حجة للشيعة ، فإن الراوندية [1] تقول بالنص على العباس كما قالوا هم بالنص على علي .
قال القاضي أبو يعلى وغيره : " واختلف الراوندية فذهب جماعة منهم إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على العباس بعينه واسمه ، وأعلن ذلك وكشفه وصرح به ، وأن الأمة جحدت [2] هذا النص وارتدت وخالفت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - [3] عنادا . ومنهم من قال : إن النص على العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة " [4] يعني هو نص خفي .
فهذان قولان للراوندية كالقولين للشيعة ، فإن الإمامية تقول : إنه نص على [ علي بن أبي طالب ] - رضي الله عنه - [5] من طريق التصريح والتسمية [ ص: 501 ] بأن هذا هو الإمام من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا . والزيدية [6] تخالفهم في هذا .
ثم من الزيدية من يقول : إنما نص عليه بقوله : من كنت مولاه فعلي مولاه [7] ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى [8] ، وأمثال ذلك من النص [ ص: 502 ] الخفي الذي يحتاج إلى تأمل لمعناه . وحكي عن الجارودية من الزيدية [9] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على علي بصفة لم تكن توجد إلا فيه ، لا من جهة التسمية .
فدعوى الراوندية في النص من جنس دعوى الرافضة ، وقد ذكر في الإمامية أقوال أخر .
قال [ أبو محمد ] بن حزم [10] " اختلف القائلون بأن الإمامة [11] لا تكون [12] إلا في صليبة قريش [13] ، فقالت طائفة : هي جائزة في [ ص: 503 ] جميع ولد فهر بن مالك بن النضر [14] ؛ وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة [15] وبعض المعتزلة .
وقالت طائفة : لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس [ بن عبد المطلب ] [16] ، وهم الراوندية [17] .
وقالت طائفة : لا تجوز [ الخلافة ] [18] إلا في ولد علي بن أبي طالب [19] .
وقالت طائفة : لا تجوز [ الخلافة ] [20] إلا في ولد جعفر بن أبي طالب [21] ( * ثم قصروها [22] على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب * ) [23] . وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان [ ص: 504 ] يقول : لا تجوز الخلافة إلا لبني [24] عبد المطلب خاصة ، ويراها في جميع ولد [25] عبد المطلب ، وهم : أبو طالب وأبو لهب والعباس والحارث [26] " .
قال [27] : " وبلغنا [28] [ عن رجل كان بالأردن يقول : لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد شمس [29] ، وكان له [30] في ذلك تأليف مجموع " .
قال [31] : " ورأينا [32] كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب [33] يحتج فيه أن [34] الخلافة لا تجوز إلا في ولد أبي بكر وعمر خاصة [35] " ، وسيأتي تمام الكلام على تنازع الناس في الإمامة إن شاء الله تعالى .
والمقصود هنا أن أقوال الرافضة معارضة بنظيرها ، فإن دعواهم النص على علي ، كدعوى أولئك النص على العباس ، وكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار ، ولم يقل أحد من أهل العلم شيئا من هذين القولين ، [ ص: 505 ] وإنما ابتدعهما أهل الكذب كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه ؛ ولهذا لم يكن أهل الدين من ولد العباس وعلي يدعوان هذا ولا هذا ، بخلاف النص على أبي بكر فإن القائلين به طائفة من أهل العلم ، وسنذكر إن شاء الله تعالى فصل الخطاب في هذا الباب .
لكن المقصود أن لهم أدلة وحججا من جنس أدلة المستدلين في موارد النزاع ، ويكفيك أن أضعف ما استدلوا به استدلالهم بتسميته خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه قد تقدم أن القائلين بالنص على أبي بكر منهم من قال بالنص الخفي ، ومنهم من قال بالنص الجلي .
وأيضا ، فقد روى ابن بطة [36] بإسناده ، قال حدثنا أبو الحسن بن أسلم الكاتب [37] ، حدثنا الزعفراني [38] ، حدثنا يزيد بن هارون [39] حدثنا المبارك بن فضالة [40] ، أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير [ ص: 506 ] الحنظلي [41] إلى الحسن فقال : هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر ؟ فقال : أوفي شك صاحبك ؟ نعم ، والله الذي لا إله إلا هو استخلفه ، لهو أتقى من أن يتوثب عليها . قال ابن المبارك : استخلافه هو أمره أن يصلي بالناس ، وكان هذا عند الحسن استخلافا " .
قال : " وأنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد [42] حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب [43] ، حدثنا يحيى بن سليم [44] . حدثنا جعفر بن [ ص: 507 ] محمد [45] - 105 ، وفيها أنه مات 148 . ، عن أبيه [46] ، عن عبد الله بن جعفر [47] قال : ولينا أبو بكر فخير خليفة أرحمه بنا وأحناه علينا [48] . قال : وسمعت معاوية بن قرة [49] يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر " [50] .
ثم القائلون بالنص على أبي بكر من قال بالنص الجلي ، واستدلوا على ذلك باتفاق الصحابة على تسميته خليفة رسول الله [ ص: 508 ] - صلى الله عليه وسلم - قالوا [51] : والخليفة إنما يقال لمن استخلفه غيره ، واعتقدوا أن الفعيل بمعنى المفعول ، فدل ذلك على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف [52] على أمته .
والذين نازعوهم في هذه الحجة قالوا : الخليفة يقال لمن استخلفه غيره ، ولمن خلف غيره فهو فعيل بمعنى فاعل ، كما يقال : خلف فلان فلانا . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين [53] : " من جهز غازيا فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا " [54] . وفي الحديث الآخر : " اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا " [55] .
[ ص: 509 ] وقال تعالى : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات [ سورة الأنعام : 165 ] . وقال تعالى : ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون [ سورة يونس : 14 ] [56] وقال تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة [ سورة البقرة : 30 ] . وقال : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق [ سورة ص : 26 ] [57] ، أي خليفة عمن قبلك من الخلق ، ليس المراد أنه [58] خليفة عن الله ، وأنه من الله كإنسان العين من العين ، كما يقول ذلك بعض الملحدين القائلين بالحلول والاتحاد ، كصاحب " الفتوحات المكية " ، وأنه الجامع لأسماء الله الحسنى ، وفسروا بذلك قوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها [ سورة البقرة : 31 ] [59] وأنه مثل الله الذي نفي عنه [ ص: 510 ] الشبه [60] بقوله ليس كمثله شيء [61] ، [ سورة الشورى : 11 ] ، إلى أمثال هذه المقالات التي فيها من تحريف المنقول [62] وفساد المعقول ما ليس هذا موضع بسطه [63] .
والمقصود هنا أن الله لا يخلفه غيره ، فإن الخلافة إنما تكون عن غائب ، وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه لا يحتاج في تدبيرهم إلى غيره ، وهو [ سبحانه ] [64] خالق الأسباب والمسببات جميعا ، بل هو سبحانه يخلف عبده المؤمن إذا غاب عن أهله . ويروى [65] أنه قيل لأبي بكر : يا خليفة الله . فقال : بل أنا خليفة رسول الله ، وحسبي ذاك .


