الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تنتابني وساوس بأنني قد وقعت في الكفر، فكيف أتخلص منها؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا طالبة في كلية الطب البشري، عمري 19 سنة، وحاليًا توقفت حياتي كليًا بسبب بعض الأفكار التي راودتني قبل شهرين.

بدأت الالتزام الديني عندما كان عمري 14 سنة، وكنت أميل إلى المثالية والتشديد على نفسي، كما كنت أعاني من الوسوسة في بعض الأمور، خاصة المتعلقة بالكفر، كنت أتوهم أن بعض الأفعال تُخرجني من الإسلام، فكنت أكرر الشهادتين باستمرار وأحاول التوبة! وتذكرت حينها أنني في إحدى المرات وقعت في الاستهزاء بالدين، وكنت أترك بعض الصلوات، لكنني تبت من ذلك كله.

قرأت ذات مرة في أحد مواقع الإنترنت أن من رأى ورقة مكتوبًا فيها آية، أو اسم الله، ولم يرفعها فقد يكفر؛ فأصبحت أحاول رفع هذه الأوراق، لكن في بعض المواقف تركتها عمدًا، مع علمي بأن تركها قد يكون كفرًا، للأسف، شعرت بالخجل من رفعها، وكأنني اخترت الكفر على الشعور ببعض الحرج، تكررت هذه المواقف، وكنت أتشهد وأندم بعد كل حادثة.

مرت السنوات، ونسيت الموضوع، وانشغلت بدراستي وحفظ القرآن والنوافل والأذكار، لكن قبل شهرين، تذكرت ما فعلته، وأحسست بندم شديد، لا أستطيع أن أتصور أنني قد كفرت، وبدأت أكرر الشهادتين كثيرًا، وأشعر أنني لن أدخل الجنة مهما فعلت، حاولت أن أحسن ظني بالله، لكنني لم أتحسن خلال الشهرين الماضيين.

لا أستطيع النوم، وأستيقظ مفزوعة، ولا أستطيع الدراسة؛ لأنني أؤمن أنني لم أعد أستحق أن أعيش أو أسعى في الدنيا، وكل مخططاتي وأحلامي تدمرت.

وحاليًا، عادت إليّ أفكار بأن بعض الأفعال التي قمت بها مؤخرًا قد تكون كفرًا، وما زلت أكرر الشهادتين دون جدوى، أحاول أن أدعو الله أن يفرّج كربتي، لكنني لا أظن أنه سيستجيب لدعاء شخص كافر.

أصبحت أخاف جدًا من تكرار موقف مشابه لما حدث في الماضي، كترك رفع الأوراق أو ما شابه، وأصبحت أفكر في الانتحار قبل أن يحدث شيء كهذا.

ماذا أفعل؟ هل أنسى الماضي وأبدأ صفحة جديدة وأعيش مثل باقي زميلاتي؟

تواصلت خلال هذه الفترة مع عدد من الشيوخ، وأجمعوا على أنني لم أكفر، أو أن ما أعاني منه هو وساوس في العقيدة يُؤجر المسلم على مجاهدتها، لكنني أعتقد أنهم لم يفهموا سؤالي جيدًا، لقد حدث ما حدث، ولا أريد أن أنكر ما فعلت، لكنني أريد أن أعرف: هل ما زلت أستحق العيش والسعي؟ وكيف أتغلب على الهلع الليلي؛ حيث أستيقظ وأنا أشعر أنني سأموت كافرة؟

لا تهمني الدنيا، وإذا كان الابتلاء في الجسد أو المال فأنا أصبر، طالما أن الابتلاء لم يصب ديني، لكن ما حدث الآن جعلني لا أعرف: هل هو ابتلاء فعلًا؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ مكة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبًا بك في استشارات إسلام ويب، أولًا نسأل الله تعالى أن يصرف عنك شر هذه الوساوس وينجيك منها.

وقد قرأنا سؤالك كلمة كلمة، وفهمنا كل ما ورد فيه، ونحن ندرك مدى المعاناة التي تعيشينها بسبب هذه الوساوس، لكننا في الوقت نفسه ندرك تمام الإدراك أن بإمكانك أن تُخلِّصي نفسك من هذا العناء؛ إذا تعاملت مع الأمر بجد، واستعنت بالله تعالى على تنفيذ النصائح والتوجيهات النبوية، التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أصيب بشيءٍ من الوسوسة.

فينبغي أن تدركي أولًا -ابنتنا الكريمة-، أنك وقعت في فخ الشيطان حين سلَّط عليك هذه الوساوس؛ بسبب عدم معرفتك للأحكام الشرعية في الأمور التي دخلت عليك الوساوس بسببها، فالتقاط الأوراق من الطريق لا يجب على الإنسان أن يبذل نفسه لذلك، وأن يُسخِّر نفسه في هذه الوظيفة؛ لأن هذا مما فيه مشقة وعُسر، والله تعالى رفع عن الإنسان الحرج والمشقة، قال الله تعالى: {مَا يُريدُ اللَّهُ ليَجْعَلَ عَلَيْكُم منْ حَرَجٍ}.

وإنما يتحدث العلماء فقط عن حالة واحدة وحيدة، وهي إذا رأى الإنسان ورقة مكتوبٌ فيها آية من القرآن الكريم، أو ذكر الله تعالى، أو ذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ورأى هذا كله من غير أن يفتش في الورقة، أو يُقلِّب فيها، ففي هذه الحالة يجب عليه أن يأخذ هذه الورقة ويُتلفها بأي نوع من أنواع الإتلاف؛ بتمزيقها أو حرقها أو وضعها في مكان محترم؛ بحيث لا تُداسُ بالأقدام، ونحو ذلك.

وعلى فرض أنه رأى هذا ولم يفعله فليس بكافر، وإن كان قد ارتكب شيئًا محرمًا ممنوعًا، أمَّا الأوراق التي لا يدري ما فيها وتحتاج إلى تفتيش فيها ليرى فيها هل فيها شيءٌ من القرآن أم لا؛ فهذه لا يجب عليه أن يُفتشها، وأن ينظر فيها.

وهذا كله أنت قصرت في العلم به، وظننت أنه يجب عليك أن تبحثي في كل الأوراق، وظننت أيضًا بأنه إذا وجد ورقة فيها مكتوب شيءٌ من القرآن أو نحو ذلك، وإذا لم تقومي بحفظها أو بإتلافها؛ فإنك وقعت بذلك في الكفر، وهذا كله خطأ، ليس من الصواب في شيء.

إذًا هذه أول الأمور التي ينبغي أن تتضح لك. وإذا أدركتها تمام الإدراك علمت أن الأمر سهلٌ يسير، وأنك شدَّدت على نفسك، وعسّرْتِ الأمور وهي سهلة، أمَّا الموسوس فإنه أولى بالتيسير والتخفيف عنه؛ لأنه مصابٌ بشيء من المرض، والله تعالى شرع أحكام التيسير للمرضى بما لم يشرعه للأصحاء.

فإذًا، نحن ندعوك أولًا إلى هجر هذه الوساوس والانصراف عنها، وذلك بتحقيرها وعدم الاهتمام بها، لا تبالي بها، ولا تضربي لها حسابًا، ولا تعتني بها، ولا يحاول الشيطان أن يوهمك بأنك على خطر، لو لم تفعلي كذا وكذا.

أعرضي عن هذه الوساوس تمامًا، وسيري في حياتك كغيرك من الناس، وأكثري من الاستعاذة بالله تعالى كلما داهمتك هذه الأفكار، وأكثري من ذكر الله تعالى، هذه ثلاث توجيهات نبوية كفيلة -بإذن الله تعالى- بتخليصك من الوسوسة، إذا أنت التزمت بذلك وصبرت عليه.

واحذري كل الحذر من أن يجرك الشيطان إلى ما هو أفظع وأعظم من مجرد الوساوس، بأن تسيئي إلى نفسك بالانتحار أو غيره؛ فإن الانتحار لا ينقل الإنسان من الشقاء إلى الراحة، بل ينقله من شقاء إلى شقاء أعظم وأدوم وأطول.

وبهذا تعلمين -أيتها البنت الكريمة- أنك ولله الحمد على دينك، وأنك على إسلامك، لم تقعي في كفر، ولست بحاجة إلى أن تُجدّدي كلمة التوحيد بقصد الدخول في الإسلام، وإن كان كلمة التوحيد ذكر، بل أعلى الذكر وأشرفه، أفضل الذكر لا إله إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فأنت مطلوب منك أن تذكري الله تعالى كثيرًا، ولكن ليس بهذا القصد الذي تفرضه عليك الوساوس، أنك قد خرجت من الإسلام وأنك تُجددين إسلامك، بل أنت على دينك، لم تضرك هذه الوساوس، ولم تؤثر عليك، فاشكري نعمة الله تعالى عليك، وخذي بالتوجيهات التي سبق ذكرها، وستجدين نفسك تتخلصين -بإذن الله تعالى- من هذه الوساوس عن قريب.

نسأل الله تعالى أن يصرف عنَّا وعنك كل مكروه.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً